header

في الحياة الانسانية

رسالة قداسة البابا بولس السادس العامّة في الحياة الإنسانيّة حاضرة الفاتيكان، في 25 تمّوز 1968 إلى الاخوة الأجلاّء البطاركة و رؤساء الأساقفة ، وسائر الرؤساء المحليّين في سلامٍ واتحادٍ مع الكرسي الرسوليّ، إلى الإكليروس وإلى المؤمنين في العالم الكاثوليكي وإلى جميعِ الناس ذوي الإرادة الطيّبة أيّها الاخوة الأجلاّء والأبناء الأعزّاء

1) نقل الحياة

إنَّ الواجبَ الخطيرَ في نقلِ الحياة الإنسانيّة الذي يجعلُ من الزوجين شريكين للخالق حرّين ومسؤولين، قد كان لهما دائماً ينبوعَ أفراحٍ كبيرةٍ يرافقها بعض الأحيان الكثير من الصعوبات والمتاعب. إنَّ تتميم هذا الواجب قد طرح في كلَّ زمن، على ضمير الزوجين، معضلات جديّة، غير أنَّ التطورَ الحديثَ للمجتمع قد أدّى إلى تغيّرات بشكلٍ نتجت معه أسئلةٌ جديدةٌ: أسئلةٌ لم يكن بإمكانِ الكنيسة أن تجهلها، في مجالٍ يتناول، هكذا عن كثب، حياةَ الناس وسعادتَهم.

القسم الأوّل
النواحي الجديدة للقضيّة وكفاءة
سُلطة الكنيسة التعليميّة

2) المعطيات الجديدة للقضيّة

إنَّ التغييرات التي حصلت هي فعليّاً، جديرة بالذكر ومن أنواعٍ شتّى. هنالك أوّلاً تزايد عددِ السكّان السريع. إنَّ كثيرين يُبدون خوفَهم من تزايد عدد سكّان العالم بسرعة تفوقُ تزايدَ المرافق المتوفِّرة لهم. من هنا القلق المتصاعد في كثيرٍ من العائلات والشعوبِ النامية ومن هنا التجربة الكبيرة التي تعترض السُلُطات في مجابهتها هذاالخطر باتخاذ اجراءاتٍ جذريّة. أضف إلى ذلك أنّ أوضاعَ العمل والسكن، والمقتضيات المتزايدة في حقلَي الاقتصاد والتربية، تجعلُ من الصعب غالباً اليوم مهمّة تربيةِ عدد كبير من الأولاد تربيةٍ لائقة. ... ويُلاحظ أيضاً تغيّرٌ سواء في كيفيّة اعتبار شخصيّة المرأة ومكانتها في المجتمع أم في القيمة الواجب اعطاؤها للحبِّ الزوجيّ في الحياة الزوجيّة، وسواء أيضاً في كيفيّةِ تقييم مفهوم الأفعال الزوجيّة بالنسبة إلى هذا الحبّ. وبنوعٍ خاص أخيراً قد أحرز الإنسانُ تقدّماً مدهشاً في السيطرة على قوى الطبيعةِ وتنظيمها عقليّاً إلى حدًّ يصلُ معه إلى فرضِ هذه السيطرةِ على كيانِه نفسه بكامله: أي على الجسدِ والحياةِ الجسديّةِ والحياة الإجتماعيّةِ حتّى والشرائع التي تنظّم نقلَ الحياة.

3) اسئلة جديدة

– إنَّ حالة كهذه للأشياء، تخلق أسئلةً جديدة. فنظراً إلى أوضاعِ الحياةِ الحديثة، ونظراً إلى مفهوم العلاقات الزوجيّة لأجلِ انسجام الزوجَين وأمانتهما المتبادلة، الاّ يكون هناك مجال لإعادة النظر في القواعد الأدبيّة المعروفة حتّى الآن، سيّما وإن أخذنا بعين الاعتبار عدمَ إمكانيّة الحفاظ على هذه القواعد دون تضحيات بطوليّة أحياناً. في حالِ تطبيق المبدأ المعروف بمبدأ الشمول، في هذا المجال، الاّ يمكن القبول بأنّ نسبةَ خصب أقلّ انتشاراً وأكثر خضوعاً للعقل تحوّل اكتشاف التعقيم ماديا إلى مراقبة الولادات مراقبة شرعيّة وحكيمة؟ وبكلمةٍ أُخرى، ألا يمكن القبول بأنّ غايةَ عملِ الخلقِ تتناول الحياةَ الزوجيّة بأسرها، أكثر مما تتناول كلَّ فعلٍ من أفعالِها؟. ونظراً إلى تزايُدِ مفهوم مسؤوليّة الإنسان الحديث هنالك سؤال: ألم يحن الوقتُ بعد للإنسان كي يكلَّف عقلَه وإرادتَه، لا النظم البيولوجيّة لجسده، العناية بتنظيم الولادات؟

4) كفاءة سُلطة الكنيسة التعليميّة

كانت أسئلةٌ كهذه تتطلَّبُ من سُلطةِ الكنيسة التعليميّة تفكيراً جديداً وعميقاً في مبادئ تعليم مَناقبية الزواج: وهو تعليمٌ مرتكزٌ على السُنّةِ الطبيعيّةِ يُنيره الوحيُ الإلهيُّ ويُغنيه. ما من مؤمنٍ يود أن ينكرَ على سُلطة الكنيسةِ التعليميّة حقَّها في شرح الشريعة الأدبيّة الطبيعيّة. ولا ينكر، في الواقع كما أعلن أسلافُنا مراراً عديدة، أنَّ يسوع المسيح بإعطائه بطرس والرسل سلطانَه الإلهي وبإرساله إيّاهم ليعلّموا وصاياه جميعَ الأمم، قد جعل منهم حماة وشارحين حقيقيّين للشريعة الأدبيّة كلّها: لا شريعة الإنجيل وحسب، بل أيضا الشريعة الطبيعيّة التي هي أيضا تعبير عن إرادةِ الله، والتي يُعتبَر الحفاظُ عليها ضرورياً للخلاص. لقد أعطت الكنيسةُ دائماً – وبتوسيعٍ أكبر في العصر الحديث – وفقاً لهذه الرسالة التي هي رسالتها، تعليماً منسجماً في طبيعة الزواجِ كما في الاستخدام الصحيح للحقوق الزوجيّة وواجبات الزوجين.

5) دراسات خاصّة

إنَّ وعيَنا هذه الرسالة نفسها قد أدّى بنا إلى تثبيتِ وتوسيع لجنة الدراسة التي أسَّسها في شهر آذار / مارس عام 1963، سلفُنا السعيد الذكر، البابا يوحنّا الثالث والعشرون. كانت تهدفُ هذه اللجنةُ التي كانت تضمُّ أخصّائيين في مختلف الأنظمة المعنيّة، وأزواجاً أيضاً، إلى جمعِ آراءٍ حول الأسئلة الجديدة المتعلّقة بالحياة الزوجيّة وبتعديلِ النسل، بنوعٍ خاص، وإلى توفيرِ عناصر إعلام ملائمة، كي تتمكّن سُلطة الكنيسة التعليميّة من إعطاءِ جوابٍ ملائمٍ ليس فقط إلى المؤمنين المنتظرين حلاًّ، بل أيضاً إلى الرأي العامَّ العالميّ. إنَّ أعمالَ الخبراء التي كمَّلتها الآراءُ والنصائح التي وفّرها لنا عددٌ كبيرٌ من إخوتِنا في الأسقفيّة، سواءٌ بطريقةٍ عفويّة أم تلبيةً لطلبٍ صريحٍ منّا قد سمحت لنا بأن نقدّر نواحي هذه القضيّة المعقّدة بطريقةٍ أفضل. وإنّنا من كلِّ قلبِنا

نعبِّرُ عن شكرِنا الخالص للجميع.
6) جواب سُلطة الكنيسة التعليميّة

لم يكن بإمكان النتائج التي توصّلت إليها اللجنة أن تُعتبرَ نهائيّةً في نظرنا، ولا أن تعفينا من النظر شخصيّاً في هذهِ القضيّة الخطيرة، وذلك لأسبابٍ منها:
- عدم تحقيق الاتّفاق التام داخل اللجنة، على القواعدِ الأدبيّة المُقترحة، وخاصةً ظهور حجّةِ حلولٍ كانت بعيدةٌ عن التعليم الأدبيّ الذي عرضته بحزمٍ مستنير، حول الزواج، سُلطة الكنيسة التعليميّة. لذلك نروح الآن بفضلِ الرسالة التي وكّلها إلينا المسيح، نعطي جوابَنا على هذه الأسئلة الخطيرة، بعد ... اطّلاعِنا العميق على المراجع التي وُضِعت بين يدينا، وبعد تفكيرٍ ناضِجٍ وصلواتٍ مستمرّة.

القسم الثاني
المبادئ العقائديّة

7) رؤية شاملة للإنسان

إنَّ قضيّة الولادة، كأيّ قضيةٍ أخرى تتعلّقُ بالحياةِ الإنسانيّة، يجب أن تعتبر أبعد من الرؤى الجزئيّة سواء كانت هذه الرؤى من الناحية البيولوجيّة والسيكولوجيّة، أم الديموغرافيّة، أم من ناحية عِلمِ الإجتماع – على ضوء رؤيةٍ شاملةٍ للإنسان ودعوته لا الطبيعيّة والدنيويّة وحسب، بل أيضاً الفائقة الطبيعة والأبديّة. وبما أنَّ الكثيرين، في محاولاتهم تدبير الأساليب الاصطناعيّة لمراقبة الولادات، قد استوحوا متطلِّبات الحبِّ الزوجيّ أم "الأبوّة المسؤولة"، فيحسُنَ بنا أن نوضح جيِّداً المفهومَ الحقَّ لهاتين الحقيقتين الكبيرتين في الحياة الزوجيّة، باستنادنا بنوعٍ خاص، إلى ما عَرض بطريقةٍ ذات سُلطةٍ عُليا، المجمعُ الفاتيكاني الثاني، في الدستور الراعوي "الكنيسة في عالم اليوم".

8) الحبّ الزوجي

يظهر الحبُّ الزوجيُّ طبيعتَه الحقّة ونبلَه الحقّ عندما يُنظر إليهِ في مصدرِهِ الأوّل: أي الله الذي هو محبّة "الآب الذي منه تَسمى كلّ أبوّةٍ في السماءِ وعلى الأرض". ليس الزواجُ إذن نتيجةَ الصدفةِ، ولا نتيجةَ تطوّرِ القوى الطبيعيّة غير الواعية، إنّما هو مؤسَّسةٌ حكيمةٌ أرادها الخالقُ لتحقيقِ فكرةِ تصميمِه في الإنسانيّة، يتجِّه الزوجان بواسطة العطاء الشخصيّ المتبادل، - ميزتها التي ينفردان بها- إلى اتحاد شخصيهما، وفي سبيل كمالٍ شخصي متبادل، للاشتراكِ مع الخالق في عملِ الخلقِ وتربيةِ كلِّ حياةٍ جديدة. زد على ذلك أنَّ الزواج بالنسبةِ للمعمَّدين، يحمل كرامةَ علامةِ سرِّ النعمةِ بصفتِهِ يمثَّل وحدةَ المسيح والكنيسة.

9) ميّزات

ه على ضوء هذا، تتضح جليّاً صفاتُ الحبِّ الزوجيّ ومقتضياتُهُ المميزة، الواجب جدّاً أخذ فكرة صحيحة عنها. الحبُّ الزوجيّ هو قبل كلِّ شيء، حبٌّ إنسانيٌّ كاملٌ: أي جسديٌّ وروحيٌّ في نفس الوقت. ليس هو إذن، مجرّد نقلٍ للغريزةِ والعاطفةِ، بل أيضاً وخاصّةً فعل الإرادة الحرّة الذي يهدف إلى استمرار ذاته وإلى نموّه عبر أفراحِ الحياة اليوميّة وآلامِها، بشكلٍ يصبحُ معه الزوجان قلباً واحداً وروحاً واحدة، ويبلغان معاً إلى كمالِها الإنسانيّ. والحبُّ الزوجيُّ، هو أيضاً حبٌّ شاملٌ، أي نوعٌ خاصٌّ من الصداقة الشخصيّة التي يتقاسمُ الزوجان بواستطها بسخاء، كلَّ الأشياء دون تحفُّطٍ مُسبق ولا حساباتٍ أنانيّة. إنَّ من يُحب حقّاً شريكَ حياتِهِ لا يحبّه فقط لما يأخذ منه بل لشخصِهِ بالذات، ويسعد في أن يتمكّن من إغنائهِ بعطاءِ الذات. والحبُّ الزوجيُّ هو حبٌّ أمينٌ ومتفرّدٌ حتّى الموت. هكذا، في الواقع، يراه الزوجان يوم يرتبطان بالرباطِ الزوجيّ بحرّيّةٍ ووعيٍ تام. أمانةٌ قد تكون صعبةً بعض الأحيان، غير أنّها أمانة ممكنةٌ وشريفة وذات استحقاقٍ دائماً. وما من أحدٍ ينكر ذلك. إنَّ مَثلَ الكثيرين من الأزواج، عبر العصور، يبرهن أنَّ الأمانة ليس فقط تتفق وطبيعة الزواج بل هي أيضاً مصدرُ سعادةٍ عميقةٍ ومستمرّة. والحبُّ الزوجيُّ أخيراً، حبٌّ خصبٌ لا يتلاشى في وحدةِ الزوجين، بل يهدف إلى الإستمرار في حياةٍ جديدة. " إنَّ الزواجَ والحبَّ الزوجيَّ مرتبّان بطبيعتهما، ليؤديا إلى عملِ الخلقِ وتربيةِ الأبناءِ وفي الواقع، إنَّ الأبناءَ هم هبةُ الزواج الممتازة، ويساهمون إلى حدٍّ بعيدٍ في خيرِ الأهلين أنفسهم."

10) الأبوّة المسؤولة:

يقتضي الحبُّ الزوجيُّ من الزوجين وعياً لرسالتهما في "الأبوّةِ المسؤولة" التي من الطبيعي أن تعلَّق عليهما أهميّةً كبرى والتي يجب أن تُفهم على حقيقتِها. يجب اعتبارُها في نواحيها الشرعيّة المختلفة والمتماسكة في ما بينها. أمّا في ما يتعلّق بالطرقِ البيولوجيّة، فإنَّ "الأبوّة المسؤولة" تعني معرفةَ هذه الطرقِ ومهامَها: إنَّ العقلَ يكتشفُ، في إمكانيّةِ إعطاءِ الحياة، قوانينَ بيولوجيّة تشكِّلُ جزءاً من الشخصِ الإنساني. وفي ما يتعلّق باتجاهاتِ الغريزةِ والشهوات، تعني "الأبوّة المسؤولة" سيطرةَ الإرادة والعقل الضروريّة على الغريزة والشهوات. وأمّا في ما يتعلّق بالأوضاعِ الجسديّة، والاقتصاديّة والسيكولوجيّة والإجتماعيّة "فالأبوّة المسؤولة" تتمُّ سواء بالقرارِ الواعي والسخي في إنماءِ عائلةٍ كبيرة، أم بالقرار المتَّخذ لأسبابٍ خطيرة وضمنَ احترام الشريعةِ الأدبيّة، في التجنّب، لفترةٍ مؤقتة أو غير مؤقتة، لخلقِ ولادةٍ جديدة. وتضمُّ "الأبوّة المسؤولة" أيضاً وبنوعٍ خاص، علاقةً أعمقَ بالنظامِ الأدبيّ الموضوعيّ، الذي رتّبهُ الله والذي يُعبَّر عنه بأمانةِ الضمير المستقيم. تتضمّن إذن الممارسةُ المسؤولة للأبوّة، معرفةَ الزوجين معرفةً عميقةً لواجباتهما نحو الله، ونحو ذاتهما، ونحو العائلة، ونحو المجتمع، في نظامٍ صحيحٍ للقِيَم. وليس للزوجين في مهمّةِ نقلِ الحياة، الحريّة في التصرّف على هواهما، كما لو كان باستطاعتِهما أن يحدِّدا بشكلٍ مُستقلٍّ ذاتيّ تام، السُبلَ الشريفةَ الواجب اتباعها، بل عليهما أن يوفِّقا بين مسلكهما وإرادة الله الخلاّقة المُعبَّر عنها في طبيعةِ الزواجِ نفسِها وأفعالِهِ والمعبّر عنها أيضاً في تعليمِ الكنيسةِ المستمر.

11) احترام الفعل الزوجيّ وغايات

ه إنَّ هذه الأعمال التي بواستطها يتّحدُ الزوجان في حميمةٍ طاهرةٍ والتي بواستطها تُنقل الحياةُ الإنسانيّة، هي أعمالٌٍ "نزيهة وكريمة" كما ذكَّر بذلك المجمع الفاتيكانيّ الثاني. وهي أعمالٌ تبقى شرعيّة، إذا ما بدت مسبقاً غير مخصبة، لأسبابٍ غير متعلِّقة بإرادةِ الزوجين – تبقى في الواقع، ضروريّة لإظهار وتقويّة وحدتهما. ويدلُّ الواقعُ كما يثبت الاختبار على أنَّ كلَّ لقاءٍ زوجيّ لا يؤدّي حتماً إلى خلقِ حياةٍ جديدة. لقد وضعَ اللهُ بحكمتِهِ قوانينَ ودوراتٍ طبيعيّة للخصب، تفصل بحدِّ ذاتِها عن تتابع الولادات. لكنَّ الكنيسة، إذ تُذكِّر الناسَ بالحفاظ على الشريعةِ الطبيعيّة المعبّر عنها في تعليمِها المستمر، تُعلِّم أنّه يجب أن يبقى كلُّ فعلٍ زوجيّ منفتِحاً على نقلِ الحياة.

12) ناحيتان متماسكتان: الوحدة وإنجاب البنين

يرتكزُ هذا التعليمُ العقائديّ الذي عرضَته سُلطةُ الكنيسة التعليميّة مراراً عديدة، على الرباط غير القابلِ للحلِّ كما أرادَهُ الله، والذي لا يمكن للإنسان أن يحلّه ببادرتِهِ الشخصيّة: أي الرباط بين مفهومَي الفعل الزوجيّ: الوحدة وإنجاب البنين. وفي الواقع إنَّ الفعلَ الزوجي، بطبيعتِهِ الحميمة، يجمعُ الزوجَين عميقاً ويجعلهما قادرَين على خلقِ حياةٍ جديدة، وفقاً لشرائعِ مرسومةٍ في ذاتِ الإنسانِ نفسها، رجلاً كان أو امرأة. وبالمحافظةِ على هاتين الناحيَتين: الوحدة وانجاب البنين يحافظُ الفعلُ الزوجيُّ كلَّ المحافظةِ على مفهومِ الحبِّ المتبادلِ والحقِّ على كونِهِ يوجّه دعوةَ الإنسانِ السامية إلى الأبوّة. نعتقد أنّ رجالَ عصرِنا هم، بنوعٍ خاصّ، قادرون على فهمِ الطابِعِ المنطِقيّ والإنسانيّ العميق لهذا المبدأ الجوهريّ.

13) الأمانةُ لتصميم الله

يُلاحظُ حقّاً في الواقِعِ، أنَّ فعلاً زواجيّاً مفروضاً على أحد الزوجين دون اعتبارِ أوضاعِهِ ورغباتِهِ الشرعيّة، ليس فعلَ حبٍّ حقيقيّ، ويتنافى بالتالي ومقتضى النظامِ الأدبيّ الصحيح في العلاقات بين الزوجين. ويُلاحظُ أيضاً أنَّ من يفكّرُ جيّداً، عليهِ أن يقرّ أيضاً بأنَّ فعلَ حبٍّ متبادلٍ قد يمسُّ بإمكانيّةِ نقلِ الحياةِ التي ربطها الخالقُ بهذا الفعلِ وفقاً لقوانين خاصّة، هو على تناقضٍ ومقوِّمات الزواج وإرادة خالقِ الحياة. إنَّ استخدام هذه العطيّة الإلهيّة بشكلٍ يقضي وإن جزئيّاً، على مفهومها و غايتِها، هو استخدامٌ يتنافى وطبيعة الرجل وطبيعة المرأة، وعلاقتهما الحميمة، ويتنافى وبالتالي ومخطّط الله وإرادته. وبالعكس إنَّ استخدام هبةِ الحبِّ الزوجيّ بشكلٍ يحترمُ قوانينَ إنجابِ البنين هو الأقرارُ بأنَّنا لسنا أسيادُ مصادر الحياةِ الإنسانيّة، بل بالأحرى خَدَمةٌ للخطّةِ التي رسمها الخالق. وكما أنَّ الإنسان، في الواقعِ، لا سُلطة له غير محدودة عامّة على جسدِهِ، كذلكَ لا سُلطة له لسببٍ خاصٍّ على قواه الخلاّقة نظراً إلى دورِها الجوهريّ في خلقِ الحياةِ التي مبدأها الله. كان قداسةُ البابا يوحنّا الثالث والعشرون يُذكِّرُ قائلاً: "إنَّ الحياةَ الإنسانيّة لَمُقدَّسةٌ، يحدثُ بدؤها مباشرةً عمل الله الخالق".

14) وسائل غير شرعيّة لتعديلِ الولادات

ومطابقة مع هذه النقاط الأساسيّة للمفهوم الإنسانيّ والمسيحيّ للزواج، نرى من واجبنا مرّةً أخرى أن نُعلِنَ أنّهُ ممنوعٌ منعاً باتّاً كواسطة شرعيّة لتعديلِ الولادات: - الإيقاف المباشر لفعلِ الخلقِ الذي بدئ به، وبنوعٍ خاصٍّ، الإجهاض المباشر المُعتمد والمُهيّأ، حتّى لأسبابِ معالجةٍ طبيّة. ممنوع أيضاً كما أعلنته سُلطة الكنيسة التعليميّة مراراً عديدة: - التعقيم المباشر مزمِناً كانَ أم مؤقتّاً لحياةِ الرجلِ أو المرأة. ممنوع أيضاً: - كلُّ عملٌ سابقٌ للفعل الزوجيّ أو مرافقٌ له أو تابعٌ لنتائجهِ الطبيعيّة قد يهدف كغايةٍ أو وسيلةٍ، إلى جعلِ فعلِ الخلقِ مستحيلاً. لتبريرِ أفعالٍ زوجيّة جُعِلت عمداً غير خصبة، لا يمكن اللجوء إلى حججٍ ذات قيمة، من أقلّ شرّاً ومن كونِ هذهِ الأفعال قد تُشكِّل أمراً واحداً والأفعال الخصبة السابقة أو التابعة لها وتتقاسم معها جودتَها الأدبيّة الفريدة والحقّة. في الحقيقةِ، إذا كان قبولُ شرٍّ أدبيٍّ شرعيّاً أحياناً، لتجنّبِ شرّاً أكبر أو للقيامِ بخيرٍ أكبر، فلا يُسمح حتّى لأسبابٍ عامّةٍ جدّاً، عملُ الشرِّ لينتج منه خير، أي الاعتبار كفعلِ إرادةٍ إيجابيّ كما هو بجوهره فوضى وبالتالي أمرٌ غير جدير بالشخص الإنسانيّ، حتّى وإن كان في النيّة المحافظة على أفعال خيرٍ فرديّة وعائليّة واجتماعيّة أو القيامِ بهذهِ الأفعال. من الخطأ إذن، الاعتقاد أنّ فعلاً زوجيّاً جُعِلَ عمداً غير خصب وبالتالي، غير نزيه بجوهره، يمكن أن يجعل نزيهاً بواسطة مجموع فترات الخصب في الحياةِ الزوجيّة.

15) شرعيّة وسائل المعالجة الطبيّة

إنَّ الكنيسة بالعكس، لا تعتبرُ مُطلقاً استخدام الوسائل الطبيّة الضروريّة حقّاً لمعالجةِ الأمراضِ الجسديّةِ، استخداماً غير شرعيّ، حتّى وإن كان من المتوقّع أن يؤدّي إلى إيقافِ الولادات، شرطَ ألاّ يكون هذا الإيقافُ معتمداً بصفة مباشرة، لأيِّ سببٍ من الأسباب.

16) شرعيّة اللجوء إلى الفترات غير الخصبة

في تعليم الكنيسة حول المناقبية الزوجيّة، يرتأى اليوم، كما كنّا قد لاحظنا أعلاه، أنَّ العقلَ الإنسانيَّ يتفرّدُ في فرضِ السيطرةِ على قوى الطبيعة غير الواعية وتوجيهها إلى غايةٍ تلائم خير الإنسان. لكن يتساءلُ البعضُ: في الحالةِ الحاضرة، أليس من المنطِقي، في ظروفٍ عديدة، اللجوء إلى مراقبةٍ اصطناعيّةٍ للولادات، إذا كان اللجوء يؤدّي إلى انسجامِ العائلةِ وطمأنينتها وإلى شروط أوضاعٍ أفضل لتربية الأولاد الذين أبصروا الحياة؟ يجب الإجابة بوضوح على هذا السؤال: إنَّ الكنيسة هي أوَّلُ من يمدح ويُشجِّع تدخُّل العقلِ في عملٍ يُشركُ، هكذا عن كثب، الخليقةَ العاقلة مع خالِقها، غير أنّها تؤكِّدُ أنَّ ذلك يجب أن يتمَّ ضمن احترامِ النظامِ الذي رتبَّه الله. واذا كان هنالك – لتمديدِ الفترةِ بين الولادات – أسبابٌ جدّيّة عائدةٌ سواء إلى أوضاعِ الزوجين الجسديّة أو السيكولوجيّة، أم إلى ظروفٍ خارجيّة، عندئذٍ تُعلِّمُ الكنيسة بأنّهُ مسموحٌ أن تؤخذ بعين الاعتبار الدورات الطبيعيّة الكائنة في مهام عملِ الخلقِ، لاستخدام الزواج فقط في الفترات غير المخصبة ولتنظيم الولادة هكذا دون المسِّ بالمبادئ الأدبيّة التي ذكرناها سابقاً. إنَّ الكنيسة المنسجمة مع نفسِها عندما تعتبر اللجوء إلى الفترات غير الخصبة، لجوءاً شرعيّاً، تشجب دائماً استعمالَ الوسائلِ المضّادة مباشرةً للاخصاب استعمالاً غير شرعيّ، حتّى وإن أوحت به أسبابٌ يمكن أن تبدو نزيهة وجدّيّة. هنالك، في الواقع، فَرقٌ جوهريٌّ بين الحالتين. – ففي الحالةِ الأولى، يستخدمُ الزوجان بطريقةٍ شرعيّة وضعاً طبيعيّاً، وفي الحالةِ الثانية، يمنعان سير الطرق الطبيعيّة. صحيح أنَّ الزوجين يتّفقان في كلٍّ من الحالتين، في النيّةِ الإيجابيّة في تجنُّبِ الولد لأسبابٍ مقبولة، محاولين الحصول على اليقين بأنَّ الولدَ لن يتكوَّن، غير أنَّه صحيح، في الحالةِ الأولى فقط، أنَّ الزوجين يعرفان أن يتخلَّيا عن استخدام الزواج في الفترات الخصبة عندما يكون إنجابُ البنين غير مرغوب به، لأسبابٍ صحيّة، ويعرفان أن يستخدما الزواج في الفترات غير الخصبة لإظهار حبِّهما والحفاظ على الأمانةِ المتبادلة. وإنّهما يعطيان بذلك برهاناً على حبٍّ نزيهٍ حقّاً وتماماً.

17) أساليبُ تعديل الولادات الاصطناعي ونتائجه الخطيرة

بإمكان ذوي الإستقامةِ أن يقووا اقتناعهم بمتانةِ تعليمِ الكنيسة العقائديّ في هذا المجال، إذا أرادوا أن يفكِّروا جيّداً بنتائج أساليب التعديل الإصطناعيّ للولادة. ليأخذوا بعين الاعتبار أولاً أي طريق واسعٍ وسهلٍ يمكن أن يفتحوا هكذا لعدمِ الأمانةِ الزوجيّة وانهيارِ الأخلاقِ العامّ. ليس هنالك الحاجةَ إلى الكثير من الاختبارات لمعرفة ولفهم الضعف البشريّ، كون الناس – وبنوعٍ خاصّ الشبيبة الضعيفة في هذا المجال – بحاجةٍ إلى تشجيعٍ كلّي كي يحفظوا الشريعة الأدبيّة بأمانة، وأنّه لا يجب أن توفَّرَ لهم أيّة وسيلة سهلة تمنعهم من المحافظة على الشريعةِ الأدبيّةِ. يخشى أيضاً على الرجل، في دأبِهِ على استخدامِ الطرقِ ضدّ الحبل أن يفقد احترام المرأة ويعتبرها مجرّد أداة للّذة الأنانيّة، لا شريكة له يحترمها ويحبّها فلا يهتم بتوازنِها الجسديّ والسيكولوجيّ. لنفكّر أيضاً بالسِّلاحِ الخطير الذي يقع هكذا بين أيدي السلطات العامّة التي قلّما تهتم بالمقتضيات الأدبيّة. من يمكنه أن يلوم حكومةً على استخدامها، لحلِّ القضايا الجماعيّة، ما يكون قد سُمحَ بهِ للزوجين لحلِّ قضيةٍ عائليّة؟ وهكذا يتوصَّلُ الإنسانُ إلى وضعِ شخصيّتِهِ الحميمة الخاصّة بداخليّة الحياةِ الزوجيّة رهن تدخُّل السُلُطاتِ العامّة عندما تُريد أن تتجنّب المصاعبَ الفرديّةَ والعائليّة والإجتماعيّة التي تعترضها في المحافظة على الشريعة الالهية كي لا تترك رسالة نقلِ الحياة لأهواء الناس، من الضروري الإقرار بحدود سُلطةِ الإنسان على جسدِهِ ومهامِهِ التي لا يمكنه تجاوزَها وهي حدود لا يحقُّ لأيِّ إنسان، عاديّاً كان أو صاحبَ سُلطة، ألاّ يتجاوزها ولا يمكن تحديدها إلاّ بالاحترام المنبثق من كمالِ جسدِ الإنسان ومهامِهِ، وفقاً للمبائ المذكورة أعلاه، وفقاً للمفهوم الصحيح لمبدأ الشمول" الذي عرضَهُ سلفُنا بيّوس الثاني عشر.

18) الكنيسةُ حارسةُ القِيَم الإنسانيّة

من المتوّقع ألاّ يقبل الجميعُ هذا التعليم بسهولة : كثيرةٌ هي الأصوات – وقد ضخَّمتها وسائلُ الإعلام الحديثة – التي تعارض صوتَ الكنيسة. إنَّما الحقُّ يُقال أنَّ الكنيسة لا تستغرب أن تكون، على مثالِ مؤسِّسِها الالهي، علامةَ تناقضٍ ولكنَّها مع ذلكَ تعلن دائماً، بحزم متواضعٍ، الشريعة الأدبيّة بكامِلِها، الطبيعيّةِ منها والالهيّة. ليست الكنيسة التي سنّت هذهِ الشريعة ولا يجوزُ لها بالتالي أن تتصرّف بها، فهي فقط قيِّمة عليها وشارحة لها ولا يمكنها أبداً أن تُعلن شرعيّاً ما هو غير شرعيّ بسبب تناقضِهِ الداخلي والدائم مع خيرِ الانسانِ الأصيل. تعرفُ الكنيسة أنَّها تساهِمُ في بناءِ حضارةٍ إنسانيّةٍ حقّة، في دفاعِها عن المناقبيّة الزوجيّة بكامِلِها. إنّها تحثُّ الإنسان على عدمِ الهرب من مسؤوليّتِهِ والاستسلام إلى الوسائلِ التِقَنيّة وتدافعُ بذلِك عن كرامةِ الزوجين. إنّها بأمانتِها لتعليمِ المخلِّصِ والاقتداءِ بهِ، تظهرُ الصديقةُ المخلصة والمتجرِّدة للبشر الذين تريدُ أن تساعدهم، منذ بدء سَيرِهم على الأرض، على الاشتراكِ في حياةِ الاله الحيّ، أبِ الجميع.

القسم الثالث
توجيهات راعوية

19) الكنيسة أم ومعلِّمة

لن تكون كلمتُنا تعبيراً مؤاتياً عن فكرةِ واهتمامِ الكنيسةِ، أم ومعلِّمة جميعِ الأُمم، التي بعد أن تكون قد ذكّرت الناس بضرورةِ الحفاظِ على الشريعةِ الإلهيّةِ حول الزواج واحترامها لا تشجِّعهم في طريقِ تعديلٍ نزيهٍ للولادات حتّى وسط الظروف الصعبة التي تنتابُ اليومَ العائلاتُ والشعوبُ. فالكنيسةُ إذن لا يمكنُها أن تسلُكَ، ازاءِ الناس، سلوكاً يختلِفُ عن سلوكِ المخلِّصِ: إنّها تعرفُ ضعفهم، تشفقُ على الجماهير وترحِّبُ بالخطأةِ ولكنَّها لا تتمكَّنُ من التخلّي عن تعليمِ الشريعةِ التي هي بالواقعِ شريعةُ الحياةِ الإنسانيّةِ المعتبرة في حقيقتِها الأصليّةِ والتي يسيّرُها روحُ الله.

20) إمكانيّة الحفاظ على الشريعةِ الالهيّة

يمكن أن يظهرَ تعليمُ الكنيسةِ حول تعديلِ الولادات الذي يعلنُ الشريعَةَ الالهية، صعباً في نظرِ الكثيرين، إن لم نَقُل مستحيلَ التطبيق. حقّاً، نظير جميع الحقائقِ الكبيرةِ والخيِّرةِ تتطلَّبُ هذه الشريعةُ تطبيقاً جدّيّاً وكثيراً من الجهود الفرديّة والعائليّة والاجتماعيّة. ويمكنُ القول أنّهُ لا سبيلَ إلى الحفاظِ عليها دون مساعدةِ الله الذي يدعمُ إرادةَ الناسِ الطيِّبة ويقوّيها. ولكن بعد التفكير العميقِ لا يمكن ألاّ تبدو هذه الجهود مُشرِّفة للإنسان وخيِّرة للأسرةِ البشريّة.

21) امتلاك الذات

يقتضي الاستخدامُ النزيهُ لتعديلِ الولادات، قبل كلِّ شيء، من الزوجين أن يعرفا ويمتلكا اقتناعاً متيناً بقِيَمِ الحياةِ والعائلةِ الحقيقيّة ويسعيا إلى امتلاكٍ كاملٍ لذاتِهما. فالسيطرة على الغريزة بواسطة العقلِ والإرادةِ الحرّةِ، تفرضُ دون شكٍّ تقشُّفاً كي تنظّم بطريقة صحيحة المظاهر العاطفيّة للحياة الزوجيّة، وخاصّة للحفاظِ على الإقتناعِ الدوريّ عن الوصال الجنسيّ. ولكنَّ التقيّدَ بهذهِ الأنظمة، الخاصّة بطهارةِ الزوجين، ليس فقط لا يسيء إلى الحبِّ الزوجيّ بل بالعكسِ يعطيهِ قيمةً إنسانيّةً أسمى. إنّهُ يقتضي جهداً متواصِلاً، ولكن بفضلِ تأثيرهِ الخيِّر يُقوّي الزوجان شخصيتهما تقويةً شاملةً باكتسابهما القِيمِ الروحيّةِ ويحملُ للحياةِ العائليّةِ ثمارَ الهدوء والسلام و يستهلُّ حلَّ معضلاتٍ أُخرى. يعزِّزُ انتباه كلاً من الزوجين للآخر ويساعدهما على إزالةِ الأنانية، عدو الحبّ الحقيقيّ ويعمّقّ مفهومَهما للمسؤليّة. يكتسب الأهل هكذا إمكانيّةَ تأثيرٍ أعمقَ وأكثرَ فعاليّة لتربية الأولاد. الطفولة والشبيبة تنموان في الاعتبار الصحيح للقِيم الإنسانيّة وفي التفتّح الهادئ والمتناسق لموانيهم الروحيّة الحسّاسة.

22) خلق جوٍّ مؤاتٍ للطهارة

نريدُ بهذه المناسبة لفتَ انتباه المربّين وكافةِ الذين يتحمّلون مهامَ المسؤوليّةِ في خدمةِ خيرِ المجتمعِ العامّ إلى ضرورةِ خلقِ جوٍّ مؤاتٍ لتربيّة الطهارةِ، أعني انتصارِ الحريّةِ السليمةِ على العبثِ المتراخي باحترامِ النظامِ الأدبيّ. فكلُّ ما من شأنهِ ، في وسائلِ الإعلام الإجتماعيّة الحديثة، أن يحملَ على إثارةِ الحواسِ، على تفشّي الأخلاق كما وعلى أنواع الصوَرِ الخلاعيّةِ والمشاهدِ الإباحيّةِ، يجب أن يُحدِثَ ردّة فعلٍ صريحة وشاملة لدى جميع الأشخاصِ الذين يهمهم تقدُّمِ المَدَنيّةِ والدفاعِ عن خيراتِ الروحِ الإنسانيّ الساميّة. وعبثاً يحاولُ البعضُ تبرير هذا الانحطاط بمقتضياتٍ فنيّة أو علميّة مزموعة أو بالحريّة التي تتركها السُلُطات العامّة في هذا الحقل.

23) نداءٌ إلى السُلُطاتِ العامّة

نقولُ إلى الحكّامِ، المسؤولين عن الخيرِ العامّ الذين باستطاعتِهِم الكثير للحفاظ على القِيمِ الأخلاقيّة: لا تتركوا أخلاقَ شعوبِكم تتقهقر، لا تقبلوا بتغلغلِ ممارساتٍ مضّادة للشريعة الطبيعيّة والإلهيّة داخلَ هذهِ الخلية الأساسيّة في المجتمع أي العائلة بالطرق القانونيّة. أمّا الطريقُ التي يمكنُ بل يجب على السُلُطاتِ العامّة سلوكَها للمساهمةِ بحلِّ قضيةِ تزايدِ السكّان فهي مختلِفة تماماً. إنّها طريقُ تأمينٍ سياسيّة عائليّة صحيحة، وتربية الشعوب تربية حكيمة تحترمُ الشريعةَ الأدبيّة وحرية المواطنين. إنَّنا نعي تماماً الصعوبات الخطيرة التي تعترضُ السُلُطات العامّة في هذا المضمار خاصّةً في البلدانِ النّامية. وقد كرَّسنا رسالَتنا العامّة " في ترقّي الشعوب" لمشاكلهم المشروعة. ولكن نردِّدُ مع سلفِنا السعيد الذكر يوحنّا الثالث والعشرين: "لا يُمكن أن تذلّل الصعوبات باللجوء إلى طرقٍ وأساليب غير لائقة بالإنسان والتي لا يمكن شرحها إلاّ بمفهومٍ ماديٍّ محضٍ للإنسانِ نفسه ولحياتِهِ. لا يوجد الحلُّ الحقيقيّ إلاّ في الإنماءِ الاقتصاديّ والتقدُّمُ الاجتماعيّ اللذين يحترمان ويرفعان القِيمَ الانسانيّة الحقيقيّة، الفرديّة والاجتماعيّة ". ولا يُمكن، دونَ ظلمٍ خطيرٍ، تحميل العناية الإلهيّة مسؤوليّة ما يتعلّقُ بالعكسِ بعدمِ حكمةِ الحكومةِ، أو بجشعٍ إنسانيّ أو أيضاً بكلِّ قابلِ الشجبِ في مجابَهةِ الجهود والتضحيات الضروريّة لرفعِ مستوى معيشةِ شعبٍ ما وجميع أبنائه. على جميعِ السُلُطاتِ المسؤولةِ – كما يفعلُ البعضُ بطريقةٍ تستحقُّ الثناءِ – أن تجدِّدَ جهودَها بسخاء. ألاّ يتوقّفَ التعاضدُ عن الازديادِ بين جميعِ أعضاءِ الأسرةِ البشريّةِ الكبيرةِ: إنّهُ لحقل عملٍ لا حدود لهُ تقريباً ينفتِحُ هنا لنشاطِ المنظّمات الدوليّةِ الكبرى.

24) إلى رجالِ العلم

نريدُ الآنَ التعبيرَ عن تشجيعِنا لرجالِ العلمِ الذين "يستطيعون الكثير في خدمةِ الزواجِ والأُسرةِ وسلام الضمائرِ إذا ما انكبّوا بفضلِ تكاتفِ أبحاثِهم على توضيحٍ أفضل لمختلفِ الشروطِ لتعديلٍ سليمٍ للتناسلِ الإنسانيّ ". لَمِن المرغوب خاصَّةً حسب الأمنية التي سبق وعبَّرَ عنها البابا بيّوس الثاني عشر أن يتوّصلَ الطبُّ إلى إعطاءِ قاعدةٍ أكيدة كافية لتركيز تعديلِ الولادات على الحفاظِ على العادةِ الطبيعيّة. يساهمُ هكذا رجالُ العلمِ وخاصّة البحّاثة الكاتوليك بالبراهين بواسطة الوقائع أنّه، حسب تعليمِ الكنيسةِ، "لا يمكن أن يوجد تناقضٌ حقيقيّ بين الشرائعِ الإلهيّةِ التي تنظِّمُ نقلَ الحياةِ وتلك التي تُعزِّزُ حبّاً زوجيّاً أصيلاً ".

25) إلى الزوجين المسيحيّين

والآنَ تتوجّهُ كلمتنا بطريقةٍ أكثر مباشرة إلى أبنائنا، خاصّة الذين يدعوهم الله إلى خدمتِهِ في الزواج. إنَّ الكنيسةَ وهي تعلِّمُ في آنٍ واحدٍ مقتضياتِ الشريعةِ الإلهيّة التي لا تزول، تبشِّرُ بالخلاصِ وتشقُّ بواسطةِ الأسرارِ طريقَ النعمةِ التي تجعلُ من الإنسانِ خليقةً جديدةً يمكنها أن تجاوبَ على تصميمِ خالقها ومخلِّصِها بالحبِّ والحريَّةِ الحقيقيّةِ وأن تجدَ نيرَ المسيحِ ليِّناً. فليتذكّر الزوجان المسيحيّان المطيعان لصوتِها إذن أنَّ دعوتَهما المسيحيّة التي ابتدأت بالمعموديّة قد تميّزت وتأكّدت فيما بعد بسرِّ الزواج. فكأنّه يثبِّت المتزوجين ويكرِّسهما ليتمِّما واجباتِهم بأمانةٍ، ليُحقِّقا دعوتَهما حتّى الكمال وليعطيا العالمَ الشهادةَ الخاصةَ بهما بطريقةٍ مسيحيّةٍ، فالربُّ يكلُ إليهما مهمّةَ إظهارِ قداسةِ وعذوبةِ الشريعةِ التي تجمعُ بين حبِّ الزوجين المتبادل واشتراكهما بحبِّ الله خالقِ الحياةِ الإنسانيّةِ بطريقةٍ يلمسها الناس. لا نعني مُطلقاً إغفالَ الصعوباتِ الخطيرةِ أحياناً والكائنةِ في حياةِ المتزوِّجين المسيحيين. بالنسبةِ لهم كما ولكلِّ إنسان "ما أضيقَ البابَ وأحرجَ الطريق الذي يؤدّي إلى الحياة". ولكن على رجاءِ هذه الحياة أن ينيرَ طريقَهم بينما يجتهدون ليحيوا في الدهرِ الحاضِرِ على مقتضى التعقُّل والعدلِ والتقوى عارفين أنَّ هيئة هذا العالم إلى زوال. فليجابه الزوجان إذن الجهودَ الضروريّةَ، يدعمهما الإيمانُ والرجاءُ الذي " لا يخزي لأنَّ محبَّةَ اللهِ قد أُفيضت في قلوبِنا بالروحِ القدس الذي أُعطيَ لنا". ليلتمسا المساعدة الإلهيّة بصلاةٍ دائمة ويتغذّيا خاصّةً بالافخارستيّا، ينبوع النعمة والمحبّة. وإذا بقي للخطيئة سيطرةٌ عليهما، فلا يجب أن ييأسا بل فليلجأا بالمداومةِ الوضيعةِ إلى رحمةِ الله الممنوحة بواسطة سرِّ التوبةِ. فيتمكّنا هكذا من تحقيقِ ملء الحياةِ الزوجيّةِ التي يصفها بولس الرسول بِهذه الكلمات: " أيُّها الرِّجالُ، أحِبُّوا نِساءَكُم كما أحَبَّ المَسيحُ كنيستهُ ... يَجبُ على الرِّجالِ أنْ يُحِبُّوا نِساءَهُم كأجسادِهِم. مَنْ أحَبَّ ا‏مرأتَهُ أحَبَّ نَفسَهُ. إنَّهُ لم يُبغِضْ أحدٌ جَسَدَهُ قَط، بَلْ يُغذِّيهِ ويربّيهِ كما يُعامِلُ المَسيحُ الكنيسَةَ. ... إنَّ هذا السِّرُّ لعَظيمٌ، أقولُ هذا بالنسبةِ إلى المَسيحِ والكنيسَةِ. وأنتم أيضاً فليُحِبَّ كُلُّ واحدٍ مِنكُمُ ا‏مرأتَهُ كنَفسِهِ ولِتَحتَرِمِ المَرأةُ رجلَها."

26) الرسالة بين العائلات

من أثمن الثمار الناتجة عن مجهودِ الأمانةِ للشريعةِ الإلهيّةِ هو أنَّ الزوجين نفسهما يشعران غالباً برغبةِ تبادلِ اختباراتِهما مع غيرهما. هكذا ينخرط في إطارِ دعوةِ العلمانيين الشاسع نوعٌ جديدٌ وممتازٌ من النشاطِ الرسوليّ بين الأمثال. فالعائلاتُ نفسُها تصبحُ رسل ومرشدي عائلاتٍ أُخرى. يكمن هنا دون منازعةٍ بين الكثير من أنواعِ الرسالةِ، نوعٌ من الأنواع التي تبدو اليوم أكثر إلحاحاً وأهميّة.

27) إلى الأطبّاء والهيئةِ الصحيّة

نكنُّ اعتباراً سامياً للأطبّاءِ ولأعضاءِ الهيئةِ الصحيّةِ الذين تعزُّ على قلوبِهم، في ممارسةِ مهنتهم، المتطلِّباتِ العليا لدعوتِهم المسيحيّة أكثر من أيِّ منفعةٍ بشريّة. فليتابعوا في كلِّ مناسبة تشجيعَ الأبحاثِ المستوحاة من الإيمان ومن العقلِ المستقيم وليبذلوا جهدهم لحثِّ الجميعِ على احترامِها والاقتناعِ بها في بيئتهم. فليعتبروا أيضاً اكتساب كلّ علمٍ ضروري في هذا المضمار الدقيق كواجبٍ مهنيّ ليتمكنّوا من إعطاءِ المتزوجين الذين يستشيرونَهم النصائحَ الحكيمة والتوجيهات السليمة التي ينتظرونَها منهم على حقّ.

28) إلى الكهنة

أيُّها الأبناءُ الأعزّاء، الكهنة الذين تُعتبرون بفضلِ دعوتِكم المستشارين والمرشدين الروحيين للأشخاص والعائلات، نتّجِهُ الآن نحوكم بثقةٍ. إنَّ مهمّتكم الأولى، خاصّةً مهمّة الذين يعلّمون اللاهوتَ الأدبيَّ هي أن تعرضوا تعليم الكنيسة حول الزواج دون التباس. كونوا في الطليعة، في ممارسةِ خدمتكم لإعطاء مثلِ التأييد المخلِص داخليّاً وخارجيّاً لسُلطةِ الكنيسةِ التعليميّة. وهذ التأييد واجبٌ، كما تعرفون، ليس فقط للأسباب المعروضة بل بالأحرى بسبب نور الروح الذي ينعمُ به بصورةٍ خاصّةٍ رعاة الكنيسة لعرض الحقيقة. إنّكم تعلمون أيضاً أنّه لَمِن منتهى الأهميّة، لراحةِ الضمائر ووحدة شعب الله، أن يتمسَّكَ الجميعُ بسُلطةِ الكنيسةِ التعليميّة ويستعملوا الكلماتِ نفسها في حقل الحقائقِ الأدبيّة كما في حقلِ الحقائقِ العقائديّة. لذلك من صميم قلبنا نُذكِّركم بالنداء المفجع الذي يوجّهه الرسول الكبير بولس: " وأسألكم أيُّها الاخوة باسم ربِّنا يسوع المسيح أن تقولوا جميعكم قولاً واحداً وألاّ يكون بينكم شقاقٌ بل تكونوا ملتئمين بفكرٍ واحدٍ ورأيٍ واحد ".

29) التعاطف المسيحي

فعدم انقاص شيء من تعليم المسيح الخلاصيّ هو نوعٌ سام من المحبّةِ نحو النفوس. ولكن يجب أن يرافق ذلك دوماً الصبرُ والعطفُ اللذان أعطى منهما الربُّ نفسَهُ المَثلَ في تصرّفاتِهِ مع الناس. إنّهُ ما أتى ليدين بل ليخلِّص. أجل إنّه كان حازماً نحو الشرّ بل رحوماً نحو الأشخاص. فليجد المتزوجون دائماً، وسط صعوباتِهم، في كلمةِ الكاهن وقلبه صدى صوتِ المخلِّص ومحبّته. تكلَّموا بثقةٍ أيُّها الأبناءُ الأعزّاء وأنتم مقتنعون جيّداً أنَّ روحَ اللهِ يُنيرُ داخليّاً قلوبَ المؤمنين داعياً إيّاهم إلى إعطاءِ تأييدهم التام في نفسِ الوقتِ الذي يساندُ فيهِ السُلطةُ التعليميّة في عرضِها للعقيدة. علِّموا المتزوّجين طريقَ الصلاةِ الضروريّةِ وهيّؤهم على اللجوء غالباً وبإيمان إلى سرَّي الافخارستيّا والتوبة دون أن يفقدوا الشجاعة بسبب ضعفهم.

30) الى الاساقفة

أيّها الإخوة في الأسقفيّة الأعزّاء والأجلاّء الذين نقاسمهم من قريب الاهتمام بخير شعبِ الله الروحيّ، يتوجّهُ نحوكم تفكيرُنا باحترامٍ ومحبَّةٍ في نِهايةِ هذه الرسالةِ العامّة. نوجّهُ إليكم جميعاً دعوةً مُلحّةً، اعملوا بحرارة وعدم انقطاع على رأس الكهنة معاونيكم وعلى رأسِ مؤمنيكم. اعملوا على حفظِ الزواجِ وقداسته ليُعاش دائماً في كمالِهِ الإنسانيّ والمسيحيّ. اعتبروا هذه الرسالةَ من أكثر مسؤوليّاتكم إلحاحاً في الوقتِ الحاضر. وهي تتضمَّنُ كما تعلمون عملاً راعويّاً مُنسَّقاً في كافةِ حقولِ النشاطِ الانسانيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والإجتماعيّ. فبإمكانِ التحسُّنِ المُحقّق في آنٍ واحدٍ في مختلفِ هذه القطاعات أن يجعلَ حياةَ الأهلِ والأولادِ، ليس فقط مقبولة بل أيضاً أكثرَ سهولة وبَهجة، وأن يجعلَ الحياةَ المشتركة في المجتمعِ الانسانيّ أكثرَ أخوّة وسلاماً في الأمانةِ لتصميمِ اللهِ للعالم.

31) نداءٌ ختامي

أيُّها الإخوةُ الأجلاّء والأبناء الأعزّاء وأنتم جميعا أيّها الناس ذوو الإرادة الطيّبة،كبيرٌ هو عمل التربية والتقدّم والمحبّة الّذي ندعوكم إليه على أساس تعليم الكنيسة الّذي يحفظه ويفسّره خليفةُ بطرس مع إخوته في الأسقفيّة. عملٌ كبيرٌحقًّا، نحن مقتنعون من ذلك اقتناعا كليًّا، للعالم كما للكنيسة لأنّه لا يمكن الإنسان أن يجد السعادة الحقّة الّتي يصبو إليها بملء كيانه إلاّ في احترام الشرائع الّتي رسّخها الله في طبيعته والواجب عليه احترامها بذكاءٍ ومحبّةٍ. نستمطر على هذا العمل كما وعليكم جميعاً وبصورة خاصّة، على المتزوّجين غزارة نِعم إله القداسة والرحمة وعربوناً لذلك نمنحكم بركتَنا الرسوليّة. أعطي في روما قرب القديس بطرس يوم عيد مار يعقوب الرسول الموافق 25 تمّوز (يوليو) سنة 1968 السادسة لحبريتنا. البابا بولس السادس